فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونعمه فَيَقول رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)}
ذكر الله تعالى في هذه الآية: ما كانت قريش تقوله تستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده، وذلك أنهم كانوا يرون أن من عنده الغنى والثروة والأولاد فهو المكرم، وبضده المهان، ومن حيث كان هذا المقطع غالباً على كثيرين من الكفار، جاء التوبيخ في هذه الآية لاسم الجنس، إذ يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع، ومن ذلك حديث الأعراب الذين كانوا يقدمون المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن نال خيراً قال هذا دين حسن، ومن ناله شر قال هذا دين سوء، و{ابتلاه} معناه: اختبره، و{نعمه} معناه: جعله ذا نعمة.
وقرأ ابن كثير {أكرمني} بالياء في وصل ووقف وحذفها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في الوجهين: وقرأ نافع بالياء في الوصل وحذفها في الوقف، وكذلك {أهانني}، وخير في الوجهين أبو عمرو.
وقرأ جمهور الناس: {فقدر} بتخفيف الدال، بمعنى ضيق.
وقرأ الحسن بخلاف وأبو جعفر وعيسى {قدر} بمعنى: جعله على قدر، وهما بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة جعفر وعيسى {قدر} بمعنى: جعله على قدر، وهم بمعنى واحد في معنى التضييق لأنه ضعف قدر مبالغة لا تعدية، ويقتضي ذلك قول الإنسان {أهانني}، لأن {قدر} معدي إنما معناه أعطاه ما يكفيه ولا إهانة مع ذلك، ثم قال تعالى: {كلا} ردّاً على قولهم ومعتقدهم، أي ليس إكرام الله تعالى وإهانته، في ذلك، وإنما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر، وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى، وإهانته فبالمعصية، ثم أخبرهم بأعمالهم من أنهم لا يكرمون اليتيم وهو من بني آدم الذي فقد أباه وكان غير بالغ. ومن البهائم ما فقد أمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحَبُّ البيوت إلى الله، بيت فيه يتيم مكرم».
وقرأ ابن كثير وابن عامر {يحضون} بمعنى: يحض بعضهم بعضاً أو تحضون أنفسكم.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {تحاضون} بفتح التاء بعنى تتحاضون، أي يحض قوم قوماً.
وقرأ أبو عمرو و{يحضون} بياء من تحت مفتوحة وبغير ألف.
وقرأ عبد الله بن المبار: {تُحاضون} بضم التاء على وزن تقاتلون، أي أنفسكم أي بعضكم بعضاً ورواها الشيرزي عن الكسائي، وقد يجيء فاعلت بمعنى فعلت وهذا منه، وإلى هذا ذهب أبو علي وأنشد:
تحاسنت به الوشى ** قرأت الرياح وخوزها

أي حسنت وأنشد أيضًا: الرجز:
إذا تخازرت وما بي من خزر

ويحتمل أن تكون مفاعلة، ويتحه ذلك على زحف ما فتأمله.
وقرأ الأعمش {تتحاضون} بتاءين، و{طعام} في هذه الآية بمعنى إطعام، وقال قوم أراد نفس طعامه الذي يأكل، ففي الكلام حذف تقديره على بدل {طعام المسكين}، وقد تقدم القول في (سورة براءة) في المسكين والفقير بمعنى يغني عن إعادته، وعدد عليهم جدهم في أكل التراث لأنهم لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد إنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة، و(اللّم): الجمع واللف.
{وَجِيءَ يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ يومئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذكرى (23)}
روي في قوله تعالى: {وجيء يومئذ بجهنم} أنها تساق إلى الحشر بسبعين ألف زمام، يمسك كل زمام سبعون ألف ملك فيخرج منها عنق فينتقي الجبابرة من الكفار في حديث طويل مختلف الألفاظ، و(جهنم) هنا، هي النار بجملتها، وروي أنه لما نزلت {وجيء يومئذ بجهنم} تغير لون النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {يتذكر الإنسان} معناه: يتذكر عصيانه وطغيانه، وينظر ما فاته من العمل الصالح، ثم قال تعالى: {وأنى له الذكرى} ثم ذكر عنه أنه يقول: {يا ليتني قدمت لحياتي}، واختلف في معنى قوله: {لحياتي} فقال جمهور المتأولين معناه: {لحياتي} الباقية يريد في الآخرة، وقال قوم من المتأولين: المعنى {لحياتي} في قبري عند بعثي الذي كنت أكذب به وأعتقد أني لن أعود حياً، وقال آخرون: {لحياتي} هنا مجاز، أي {ليتني قدمت} عملاً صالحاً لأنعم به اليوم وأحيا حياة طيبة، فهذا كما يقول الإنسان أحييني في هذا الأمر، وقال بعض المتأولين لوقت أو لمدة حياتي الماضية في الدنيا، وهذا كما تقول جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا ونحوه.
وقرأ جمهور القراء وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبو عبد الرحمن {يعذِّب} و{يوثِق} بكسر الذال الثاء، وعلى هذه القراءة، فالضمير عائد في عذابه ووثاقه لله تعالى، والمصدر مضاف إلى الفاعل ولذلك معنيان: أحدهما أن الله تعالى لا يكل عذاب الكفار يومئذ إلى أحد، والآخر أن عذابه من الشدة في حيز لم يعذب قط أحد بمثله، ويحتمل أن يكون الضمير للكافر والمصدر مضاف إلى المفعول.
وقرأ الكسائي وابن سيرين وابن أبي إسحاق وسوار القاضي {يعذَّب} و{يوثَق} بفتح الذال والثاء، ورويت كثيراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالضميران على هذا للكافر الذي هو بمنزلة جنسه كله والمصدر مضاف إلى المفعول ووضع عذاب موضع تعذيب كما قال: القرطبي: الوافر:
وبعض عطائك المائة الرتاعا

ويحتمل أن يكون الضميران في هذه القراءة لله تعالى، كأنه قال: لا يعذب أحد قط في الدنيا عذاب الله للكفار، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، وفي هذا التأويل تحامل.
وقرأ الخليل بن أحمد {وِثاقه} بكسر الواو، ولما فرغ ذكر هؤلاء المعذبين عقب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: {يا أيتها النفس المطمئنة} الآية، و{المطمئنة} معناه: الموقنة غاية اليقين، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال: {ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260]، فهي درجة زائدة على الإيمان، وهي أن لا يبقى على النفس في يقينها مطلب يحركها إلى تحصيله، واختلف الناس في هذا النداء متى يقع فقال ابن زيد وغيره: هو عند خروج نفس المؤمن من جسده في الدنيا، وروي أن أبا بكر الصديق سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «إن الملك سيقولها لك يا أبا بكر عند موتك» ومعنى {ارجعي إلى ربك} على هذا التأويل {ارجعي} بالموت.
{فادخلي في عبادي} وقال وقوله: {في عبادي} أي في اعداد عبادي الصالحين وهذه قراءة الجمهور.
بجمع {عبادي} وقال قوم النداء عند قيام الأجساد من القبور فقوله: {ارجعي إلى ربك} معناه بالبعث من موتك ارجعي إلى الله وقيل الرب هنا الإنسان ذو النفس أي (ادخلي) في الأجساد و{النفس} اسم جنس وقال بعض العلماء هذا النداء هو الان للمؤمنين لما ذكر حال الكفار قال يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين ف {النفس} على هذا اسم الجنس.
وقرأ ابن عباس وعكرمة وأبو شيخ والضحاك واليماني ومجاهد وأبو جعفر {فادخلى في عبدي} و{النفس} على هذا ليست باسم الجنس وانما خاطب مفردة.
قال أبو شيخ الروح يدخل في البدن وفي مصحف أبي بن كعب {يا أيتها النفس الامنة المطمئنة إيتي ربك راضية مرضية فارجعي في عبدي}.
وقرأ سالم بن عبد الله {فادخلي في عبادي ولجي جنتي} وتحتمل قراءة {عبدي} ان يكون العبد اسم جنس جعل عباده كالشيء الواحد دلالة على الالتحام كما قال عليه السلام «وهم يد على من سواهم» وقال آخرون إنما هو الموقف عندما ينطلق بأهل النار إلى النار فنداء النفوس على هذا إنما هو نداء أرباب النفوس ومعنى {ارجعي إلى ربك} على هذا إلى رحمة ربك والعباد هنا الصالحون المنعمون. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

وقوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان} إلخ متصلٌ بما قبلَهُ كأنَّه قيلَ: إنه تعالى بصددِ مراقبةِ أحوالِ عبادِه ومجازاتِهم بأعمالِهم خيراً وشراً فأما الإنسانُ فلاَ يهمُّهُ ذلكَ وإنما مطمحُ أنظارِه ومرصدُ أفكارِه الدنيا ولذائذِها {إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ} أي عاملَهُ معاملة من يبتليهِ بالغِنَى واليسارِ والفاءُ في قوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ ونعمه} تفسيريةٌ فإنَّ الإكرامَ والتنعيمَ من الابتلاءِ {فَيَقول رَبّى أَكْرَمَنِ} أي فضلنِي بما أعطانِي من المال والجاهِ حسَبما كنتُ أستحقهُ ولا يخطُر بباله أنه فضلٌ تفضلَ به عليهِ ليبلوَهُ أيشكرُ أم يكفرُ، وهوُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الإنسانُ والفاءُ لما في أمَّا منْ مَعْنى الشرطِ، والظرفُ المتوسطُ على نيةِ التأخيرِ كأنَّه قيلَ فأمَّا الإنسانُ فيقول ربِي أكرمنِ وقتَ ابتلائِه بالإنعامِ وإنما تقديمُه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الإكرامَ والتنعيمَ بطريق الابتلاءِ ليتضحَ اختلالُ قوله المحكيِّ {وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه} أيْ وأما هُو إذا ما ابتلاهُ ربُّه {فَقدر عَلَيْهِ رِزْقَهُ} حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكمِ البالغةِ {فَيَقول رَبّى أَهَانَنِ} ولا يخطر ببالِه أنَّ ذلكَ ليبلوهُ أيصبرُ أم يجزعُ مع أنه ليسَ من الإهانةِ في شيءٍ بل التقتيرُ قد يُؤدِّي إلى كرامةِ الدارينِ والتوسعةُ قد تُفْضِي إلى خسرانِهما.
وقرئ {فقدر} بالتشديدِ.
وقرئ {أكرمني} و{أهانني} بإثبات الياء، و{أكرمنْ} و{أهانن} بسكون النون في الوقف.
{كَلاَّ} ردعٌ للإنسانِ عن مقالتِه المحكيةِ وتكذيبٌ له فيهَا في كلتَا الحالتينِ قال ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا المَعْنى لم أبتله بالغِنَى لكرامتِه على ولم أبتلِه بالفقرِ لهوانِه على بلْ ذلكَ لمحضِ القضاءِ والقدر، وحملُ الردعِ والتكذيبِ إلى قوله الأخيرِ بعيدٌ. وقوله تعالى: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} انتقال من بيانِ سوءِ أقوالِه إلى بيانِ سوءِ أفعالِه والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ باقتضاءِ ملاحظةِ جنايته السابقةِ لمشافهتِه بالتوبيخِ تشديداً للتقريعِ وتأكيداً للتشنيعِ والجمعُ باعتبارِ مَعْنى الإنسانِ إذِ المرادُ هو الجنسُ أي بَلْ لكم أحوالٌ أشدُّ شَراً مما ذُكِرَ وأدلُّ على تهالُكِكم على المالِ حيثُ يُكْرمكم الله تعالى بكثرةِ المالِ فلاَ تُؤدونَ ما يلزمكُم فيهِ من إكرامِ اليتيمِ بالمبرةِ به.
وقرئ {لا يكرمونَ}. {وَلاَ تَحَاضُّونَ} بحذفِ إحدى التاءينِ من تَتَحاضُّون أيْ لاَ يحضُّ بعضُكم بعضاً {على طَعَامِ المسكين} أي على إطعامه. وقرئ {تحاضونَ} من المحاضةِ، وقرئ {يَحُضُّونَ} بالياءِ والتاءِ.
{وَتَأْكُلُونَ التراث} أي الميراثَ وأصلُه ورِاثٌ {أَكلا لَّمّاً} أيْ ذَا لمٍ أي جمعٍ بينَ الحلالِ والحرامِ فإنهم كانُوا لا يُورثونَ النساءَ والصيبانَ ويأكلونَ أنصباءَهم أو ويأكلونَ ما جمعَهُ المورثُ من حلالٍ وحرامٍ عالمينَ بذلكَ {وَتُحِبُّونَ المال حبًّا جَمّاً} كثيراً معَ حِرص وشرَه. وقرئ {ويُحبونَ} بالياءِ.
{كَلاَّ} رَدْعٌ لهمُ عن ذلكَ وقوله تعالى: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} إلخ استئنافٌ جِيءَ به بطريق الوعيدِ تعليلاً للردعِ أيْ إذَا دكتِ الأرضُ دكاً متتابعاً حتى انكسرَ وذهبَ كلُّ ما على وجهِها من جبالٍ وأبنيةٍ وقصورٍ حينَ زُلزلتْ وصَارتْ هباءً مُنبثاً وقيلَ: الدكُّ حطُّ المرتفعِ بالبسطِ والتسويةِ فالمَعْنى إذا سُويتْ تسويةً بعدَ تسويةٍ ولم يبقَ على وجِها شيءٌ حَتَّى صارتُ كالصخرةِ الملساءِ، وأياً مَا كانَ فهو عبارةٌ عما عرضَ لها عند النفخةِ الثانية {وَجَاء رَبُّكَ} أي ظهرتْ آياتُ قدرتِه وآثارُ قهرهِ مثلَ ذلكَ بما يظهرُ عندَ حضورِ السلطانِ من أحكامِ هيبتِه وسياستِه، وقيلَ جاءَ أمرُهُ تعالى وقضاؤُه على حذفِ المضافِ للتهويلِ.
{والملك صَفّاً صَفّاً} أي مُصطفينَ أو ذَوِي صفوفٍ فإنه ينزلُ يومئذٍ ملائكةُ كلِّ سماءٍ فيصطفونَ صفاً بعدَ صفٍ بحسب منازلِهم ومراتبِهم مُحدقينَ بالجِنِّ والإنسِ.
{وَجِيء يومئِذٍ بِجَهَنَّمَ} كقوله تعالى: {وَبرزت الجحيم} قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ «تُقادُ جهنمُ بسبعين ألفَ زمامٍ كلُّ زمامٍ معه سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجرونَها حتى تُنصب عن يسارِ العرش لها تغيظٌ وزفيرٌ» وقد رَواهُ مسلمٌ في صحيحِه عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعاً.
{يومئِذٍ} بدل من {إذَا دكتْ} والعاملُ فيهمَا قوله تعالى: {يَتَذَكَّرُ الإنسان} أي يتذكرُ ما فرَّطَ فيهِ بتفاصيلِه بمشاهدةِ آثارِه وأحكامِه أو بمعاينةِ عينه على أنَّ الأعمالَ تتجسمُ في النشأةِ الآخرةِ فيبرز كلٌّ من الحسناتِ والسيئاتِ بما يناسبُها من الصورِ الحسنةِ والقبيحةِ أَوْ يتعظُ وقوله تعالى: {وأنى لَهُ الذكرى} اعتراضٌ جِيء بهِ لتحقيقِ أنه ليسَ يتذكرُ حقيقةً لعرائِه عن الجَدوى بعدمِ وقوعِه في أوانه و{أنَّى} خبرٌ مقدمٌ و{الذكرى} مبتدأٌ و{له} متعلق بما تعلقَ بهِ الخبرُ أيْ ومنْ أينَ يكونُ له الذكرى وقد فاتَ أوانُها وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أيْ وأنَّى له منفعةُ الذكرى، والاستدلالُ به على عدم وجوبِ قبولِ التوبةِ في دارِ التكليفِ مما لا وجه لَهُ، على أن تذكّره ليسَ من التوبةِ في شيءٍ فإنَّه عالمٌ بأنَّها إنما تكونُ في الدنيا كما يُعربُ عنْهُ قوله تعالى: {يَقول ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَأتى} وهو بدلٌ اشتمالٍ من يتذكرُ أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ: ماذا يقول عندَ تذكرِه، فقيلَ يقول يا ليتني عملتْ لأجل حياتِي هذِه أو وقتَ حياتِي في الدنيا أعمالاً صالحةً أنتفعُ بَها اليوم وليس في هذا التمنِي شائبةُ دلالةٍ على استقلالِ العبدِ بفعلٍ وإنما الذي يدلُّ عليهِ ذلكَ اعتقادُ كونِه متمكناً من تقديمِ الأعمالِ الصالحةِ وأما أنَّ ذلكَ بمحضٍ قدرتِه أو بخلق الله تعالى عندَ صرفِ قدرتِه الكاسبةِ إليهِ فكَلاَّ، وأما ما قيلَ من أن المحجورَ قد يتمنَّى إن كانَ ممكناً منْهُ فربما يوهُم أنَّ منْ صرفَ قدرتَهُ إلى أحد طَرفي الفعلِ يعتقدُ أنه محجورٌ من الطرفِ الآخرِ وليس كذلكَ بل كلُّ أحد جازمٌ بأنَّه لو صرف قدرتَهُ إلى أي طرفٍ كانَ من أفعالِه الاختياريةِ لحصلَ وعلى هذا يدورُ فلكُ التكليفِ وإلزامُ الحجةِ.
{فَيومئِذٍ} أي يوم إذْ يكونُ ما ذُكِرَ منَ الأحوالِ والأقوالِ.
{لاَّ يُعَذّبُ عذابهُ أحد وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أحد} الهاءُ لله تعالى أيْ لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقَهُ أحد سواهُ إذِ الأمرُ كلُّه لهُ أو للإنسانِ أي لا يعذبُ أحد من الزبانية مثلَ ما يعذبونَهُ.
وقرئ الفعلانِ على البناءِ للمفعولِ والضمير للإنسان أيضًا وقيل المراد به أُبيّ بن خلف أي لا يعذب أحد مثل {عذابه} و{لا يُوثقُ} بالسلاسلِ والأغلالِ مثلَ وثاقِه لتناهيهِ في الكفرِ والعنادِ وقيلَ: لا يحملُ عذاب الإنسانِ كقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وقوله تعالى: {يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة} حكايةٌ لأحوالِ مَنِ اطمأنَّ بذكرِ الله عزَّ وجلَّ وطاعتِه إثرَ حكايةِ أحوالِ مَنِ اطمأنَّ بالدنيا، وصفتْ بالاطمئنانِ لأنَّها تترقَى في معارجِ الأسبابِ والمسبباتِ إلى المبدأِ المؤثرِ بالذاتِ فتستقرُ دونَ معرفتِه وتَستْغني بهِ في وجودِها وسائرِ شؤونِها عن غيرِه بالكليةِ، وقيلَ؛ هي النفسُ المؤمنةُ المطمئنة إلى الحقِّ الواصلةُ إلى ثَلَجِ اليقينِ بحيثُ لا يُخالجها شكٌّ مَا وقيلَ: هي الآمنةُ التي لا يستفزُهَا خوفٌ ولا حزنٌ ويؤيدُه أنَّه قرئ {يا أيتها النفسُ الآمنةُ المطمئنة} أي يقول الله تعالى ذلكَ بالذاتِ كما كلَّم مُوسى عليه السلام أو على لسان المَلَكِ عندَ تمامِ حسابِ الناسِ وهو الأظهرُ وقيلَ: عندَ البعثِ وقيلَ عند الموتِ.
{ارجعى إلى رَبّكِ} أي إلى موعدِه أو إلى أمرِه {راضية} بما أوتيتِ من النعيم المقيمِ {مرضية} عندَ الله عزَّ وجَلَّ {فادخلى في عِبَادِى} في زمرةِ عبادِي الصالحينَ المختصينَ بي {وادخلى جَنَّتِى} معهُم أو انتظمِي في سلكِ المقربينَ واستضئِي بأنوارهم فإنَّ الجواهرَ القدسيةَ كالمَرَايا المتقابلة وقيل: المرادُ بالنفسِ الروحُ والمَعنْى فادخُلى أجسادَ عبادِي التي افترقتِ عنْهَا وادخُلِي دارَ ثوابِي، وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ عندَ البعثِ وقرئ {فادخلي في عَبْدِي} وقرئ {في جسدِ عَبْدي}.
وقيلَ: نزلتْ في حمزةَ بنِ عبد المطلبِ وقيل: في حُبيبِ بنِ عديَ رضيَ الله عنهُمَا والظاهرُ العمومُ. اهـ.